اعترافات سفاح اقتصادي ج 2
وفي سنة ،1903 أرسل الرئيس الامريكي روزفيلت السفينة الحربية الامريكية “ناشفيل”، التي أنزلت الجنود، فقبضوا على قائد المليشيا المحلية الذي كان يحظى بشعبية كبيرة، وقتلوه، وأعلنوا بنما دولة مستقلة، وتم تنصيب حكومة خانعة، وقعت معاهدة القناة الاولى، التي أنشئ بموجبها منطقة امريكية على جانبي ما سيصبح ممراً مائياً في المستقبل، وأضفت الشرعية على التدخل العسكري الامريكي، ومنحت واشنطن سيطرة فعلية على هذه الدولة “المستقلة” حديثاً.
ومن الطريف ان المعاهدة وقعها وزير الخارجية الامريكي هاي، ومهندس فرنسي هو فيليب بوناو فاريلا الذي كان جزءا من الفريق الاصلي، ولم يوقع على المعاهدة اي بنمي. وفي اثر ذلك أجبرت بنما على الانفصال عن كولومبيا لكي تخدم المصالح الامريكية.
وعلى مدى نصف قرن ونيف، ظلت بنما تخضع لحكم أقلية من العائلات الثرية، التي تربطها بواشنطن علاقات وثيقة. وكانت دكتاتوريات يمينية تتخذ اي اجراء تعتبره ضرورياً لضمان مساندة بلادها للمصالح الامريكية. وعلى طريقة معظم الحكام الطغاة في امريكا اللاتينية المتحالفين مع واشنطن، كان حكام بنما يفسرون المصالح الامريكية بأنها تحطيم اي حركة شعبية يُشْتمّ منها رائحة الاشتراكية. كما كانوا يساندون وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية، ووكالة الامن القومي في نشاطاتهما ضد الشيوعية في نصف الكرة الارضية ذاك، ويساعدون الشركات الامريكية الكبرى مثل “شركة روكفلر ستاندارد أويْل”، و”شركة الفواكه المتحدة” (التي كان قد اشتراها جورج. ه .و. بوش). ولم تكن هذه الحكومات في ما يبدو، تشعر بأن المصالح الامريكية تتعزز بتحسين حياة الناس الذين كانوا يعيشون في فقر مدقع، أو يعملون عبيداً في واقع الامر في المزارع والمؤسسات الكبرى.
وكانت العائلات الحاكمة في بنما تكافأ بالدعم الامريكي لها، اذ تدخلت القوات العسكرية الامريكية اثنتي عشرة مرة لمساندتها، بين اعلان استقلال بنما وبين سنة 1968.
عمر توريجوس
يقول المؤلف: انه بينما كان ما يزال يخدم في فيلق السلام في الاكوادور سنة ،1968 تغيّر مجرى تاريخ بنما على حين غرّة، حيث أطاح انقلاب عسكري بالرئيس ارنولفو أرياس آخر دكتاتور في تلك السلسلة، وحل محله الرئيس عمر توريجوس رغم انه لم يشارك في الانقلاب بفاعلية.
ويتحدث المؤلف عن الرئيس عمر توريجوس، فيقول انه كان يحظى بالاحترام والشعبية في اوساط الطبقات الوسطى والدنيا. وكان هو نفسه قد نشأ في ريف مدينة سانتياجو حيث كان والداه يدرّسان فيها.
وارتقى بسرعة اثناء خدمته في الحرس الوطني وهو وحدة الجيش الأولية في بنما، والمؤسسة التي كانت تحظى بتأييد الفقراء. وكان مشهوراً عن توريجوس انه يستمع لمطالب المعدمين، وكان يتجول في شوارع مدن الصفيح التي تؤويهم، ويعقد اجتماعاته في أحياء الفقراء التي لم يكن الساسة يجرؤون على دخولها، ويساعد العاطلين في الحصول على عمل، وكثيراً ما كان يجود بموارده المالية المحدودة للعائلات التي اصابها المرض أو حلت بها مآسٍ.
ويتابع المؤلف حديثه عن تجربته في بنما، قائلاً ان رئيسها عمر توريجوس جاء بعد سلسلة من الحكام الطغاة الذين كانوا دُمى تحركها الحكومة الامريكية، التي عينتهم قبل خمسين سنة حين استولت على البلاد. وكان عمر توريجوس اول من يشذ عن القاعدة، فقد كان رئيساً يتمتع بشعبية فائقة. وكان محبوباً جداً في معظم انحاء العالم. وكان كثير من الناس يعتقدون انه كان ينبغي ان يفوز بجائزة نوبل للسلام، وكان لا بد ان يحدث ذلك لولا انه مات أو قُتل. فقد كان يحمي المستضعفين في كل مكان، وكانت الولايات المتحدة في ذلك الوقت، بزعامة الرئيس جيمي كارتر تفاوض توريجوس على معاهدة جديدة للقناة. وقد أنجرت معاهدة القناة في آخر المطاف، ولكنها أثارت قدراً هائلاً من الاضطراب في بلادنا. فقد أجازها الكونجرس بأغلبية صوت واحد فقط فاز بالتصديق على معاهدة القناة. وهكذا كنا نحن السفاحين الاقتصاديين نتطلع الى ما وراء تلك العملية، أو كيف نستطيع ان نفوز ببنما بصرف النظر عما حدث
لاتفاقية القناة.
لقد كنت هناك قبل توقيع المعاهدة سنة ،1972 وكنت أحاول تطويع توريجوس. كنت احاول اصطياده. كنت أحاول الإيقاع به مثلما فعلنا مع غيره في كل مكان. وقد رتّب لقائي به في منزل خاص مكون من طابق واحد، ودار بيننا حديث مطوّل. ولكن أهم ما قاله لي هو: انظر، إنني اعرف اللعبة التي تلعبونها.. واعرف ماذا تحاولون ان تفعلوا هنا. انكم تحاولون تحميلنا ديونا باهظة.. انكم تحاولون جعلنا معتمدين عليكم تماما، وانتم تحاولون افسادي. اني اعرف هذه اللعبة ولن العبها. لست بحاجة الى المال، ولا اتطلع الى تكوين ثروة شخصية من ذلك. اني أريد مساعدة شعبي الفقير. وأريد منكم ان تبنوا المشاريع التي يفترض ان تقيموها، والتي تقيمونها في الدول الاخرى، ولكني اريدكم ان تقيموها من أجل الفقراء من شعبنا، لا من أجل الاثرياء منه. وقال: اذا فعلتم ذلك فسأنظر في منحكم ومنح شركتكم المزيد من العمل في هذه البلاد، العمل الذي يخدم شعبنا.
كنت في موقف متناقض ازاء ما قاله. فقد كان يفترض بي كسفاح اقتصادي ان اوقعه تحت سيطرتنا. كان يفترض بي ان اوقعه في الشرك. ولكني كشريك في هذه الشركة وكرئيس اقتصادي لها، كنت أريد ايضا العمل للشركة، وفي هذه الحالة، كان واضحا ان السفاحين الاقتصاديين لن ينالوا توريجوس، ولذلك جاريته وسرت معه. ولكني في ذلك الوقت كنت اشعر بقلق عميق، لأني كنت اعلم ان هذا النظام قائم على افتراض ان الزعماء مثل توريجوس قابلون للافساد وانهم كذلك في معظمهم في كل مكان في العالم. وعندما يصمد احدهم في وجه النظام ويتحداه كما كان يفعل توريجوس، لم يكن ذلك يعني تهديدا لنا في بلاده بنما فقط، بأننا لن نشق طريقنا هناك، بل قد ينظر الى الأمر كمثال سيىء تحتذيه بقية دول العالم، ولم يكن هو الوحيد الذي يتحدى في ذلك الوقت، بل كان هنالك زعيم آخر، هو رئيس الاكوادور جيمي رولدوس. كانا كلاهما يقفان في وجه الحكومة الامريكية. وكانا يقفان في وجه شركاء النفط والسفاحين الاقتصاديين، وكان ذلك يثير بالغ القلق لدي. كنت اعلم في اعماق قلبي انه اذا استمر ذلك، فسوف يحدث شيء ما. وقد حدث بالطبع. فقد تم اغتيال هذين الرجلين على ايدي من نسميهم “ابناء آوى”، وهم السفاحون المرخصون من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية.
الى جواتيمالا
ويتحدث المؤلف عما فعلته الولايات المتحدة في جواتيمالا، في سياق حديثه عما حدث في بنما. يقول: ان شركة الفواكه المتحدة في جواتيمالا هي المعادل السياسي للقناة في بنما. وقد تأسست في أواخر العقد الأول من القرن التاسع عشر. وسرعان ما أصبحت احدى اكبر القوى المؤثرة في امريكا الوسطى. وفي أوائل خمسينات القرن الماضي، انتخب مرشح الاصلاح جاكوب اربينز رئيساً لجواتيمالا ضمن انتخابات لقيت ترحيبا حارا في نصف الكرة الارضية ذاك، باعتبارها نموذجا للعملية الديمقراطية وفي ذلك الوقت كان اقل من 3% من سكان جواتيمالا يملكون 70% من الارض. وقد وعد اربينز الفقراء باخراجهم من حالة الفقر والجوع، وبعد فوزه في الانتخابات طبق برنامجا شاملا لاصلاح الاراضي.
وينقل المؤلف عن عمر توريجوس قوله في الحديث عن اربينز: “كان الفقراء وافراد الطبقات الوسطى في جميع انحاء امريكا اللاتينية يثنون على اربينز. وأنا شخصيا كنت اعتبره احد الابطال الذين اقتدي بهم.. ولكننا في الوقت ذاته كنا نحبس انفاسنا توجسا. فقد كنا نعرف ان شركة الفواكه المتحدة تعارض هذه الاجراءات، لأنها كانت احدى اكبر الجهات المالكة للأرض في جواتيمالا واشدها قمعا واستبدادا. كما كانت تملك مزارع شاسعة في كولومبيا، وكوستاريكا وكوبا، وجامايكا، ونيكاراجوا، وسانتو دومينغو، وهنا في بنما. ولم تكن تطيق ترك أربينز ينشر مثله وقيمه في بقية دول المنطقة”.
ويتابع المؤلف بنفسه رواية ما حدث بعد ذلك. يقول ان شركة الفواكه المتحدة شنت حملة علاقات عامة في الولايات المتحدة، بهدف اقناع الجمهور الامريكي والكونجرس بأن اربينز كان جزءا من مؤامرة روسية، وان جواتيمالا كانت دولة تابعة تدور في الفلك السوفييتي. وفي سنة ،1954 قادت وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية انقلابا عسكريا هناك. وقصف الطيارون الامريكيون مدينة جواتيمالا بالقنابل، وأطيح بالرئيس اربينز المنتخب ديمقراطيا، واستبدل بالكولونيل كارلوس كاستيلو أرماس، وهو دكتاتور يميني لا يعرف الرحمة.
وكانت الحكومة الجديدة تدين بكل شيء لشركة الفواكه المتحدة. ومن أجل رد الجميل لها، الغت عملية اصلاح الاراضي، والغت الضرائب على الفوائد والحصص التي تدفع للمستثمرين الاجانب، وانهت الاقتراع السري، وزجت منتقديها في السجون. وكان الاعدام مصير كل من يجرؤ على فتح فمه بكلمة ضد كاستيلو. ويرجع المؤرخون العنف والارهاب اللذين عصفا بجواتيمالا على مدى الفترة التالية من القرن الى التحالف الذي لم يكن سرا، بين شركة الفواكه المتحدة ووكالة الاستخبارات المركزية من جهة، وبين الجيش الجواتيمالي بقيادة الكولونيل الدكتاتور، من جهة اخرى.
ويواصل المؤلف سرد بعض ما دار بينه وبين عمر توريجوس في ذلك اللقاء، فيقول ان توريجوس سأله: “هل تعرف من يملك شركة الفواكه المتحدة؟”. رد المؤلف: “زاباتا أويل، شركة جورج بوش، سفيرنا لدى الأمم المتحدة”.
قال توريجوس: “رجل طموح..”. وتابع قائلا: “والآن، ها أنا اقف في وجه اصدقائه الحميمين في شركة بيكتل”.
|