histoire
  التنمية في دول العالم الثالث
 

العالم الثالث وخيارات التنمية

وكما أشير سابقًا، فقد كان في أوروبا نموذجان للتنمية، أحدهما رأسمالي والآخر اشتراكي، وكان على الدول المستقلة حديثًا أن تختار أحدهما.
وهكذا انقسمت دول العالم الثالث في اختيار نظمها الاقتصادية، وتوجهاتها وتحالفاتها السياسية والاجتماعية تبعًا لاختيارها لأحد النموذجين. ورغم مضي حقبة طويلة، منذ حصلت هذه الدول على الاستقلال وبدأت في تحديد خياراتها في التنمية، إلا أنها لم تستطع إلى يومنا هذا تجاوز واقع التخلف الذي تركه الاحتلال الأجنبي وراءه، فقد بقي الحال كما هو عليه من قبل. فالمجاعات والأمراض لا زالت تجثم على صدور الملايين من البشر في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. ونسبة الأمية لا زالت مرتفعة جدًا الكثير من هذه البلدان، والسياسات الاقتصادية لا زالت خاضعة لسياسات أصحاب المصارف الأجنبية والدائنين من الدول الكبرى. والحلم الكبير الذي راود شعوب هذا العالم، وهي تقارع الاستعمار، في وطن حر كريم ومجتمع سعيد تهاوى تحت مأساوية هذا الواقع. فقد اكتشفت هذه الشعوب، بعد وقت طويل من التحمل والصبر، أن طريق التنمية الذي سلكوه لم يقدم لهم الأجوبة المطلوبة للخروج بهم من مأزق التخلف.
الخيار الرأسمالي. إن الذين انتهجوا طريق التنمية الرأسمالي، كانوا محكومين من جهة بارتباطاتهم وعلاقاتهم بالدول الرأسمالية، كما كانوا متأثرين من جهة أخرى، بالتنظيرات الرأسمالية حول مفهوم التنمية في البلدان المتخلفة، والتي برزت في الغرب الرأسمالي خلال ستينيات القرن العشرين. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى تنظيرات والت رنستو في موضوع التنمية في البلدان المتخلفة في كتابه مراحل النمو الاقتصادي. وقد عرض فيه فلسفته القائلة بأن الدول المتخلفة ستتغلب عن طريق علاقة التكامل مع الأنظمة الرأسمالية المتقدمة، وعن طريق المساعدات والقروض ونقل التكنولوجيا الغربية، وتبني النموذج الرأسمالي، على حالة التخلف وستصل إلى مرحلة الانطلاق فتصبح دولا صناعية متقدمة.
لقد اعتقد كثير من قادة بلدان العالم الثالث أنهم بتبنيهم للنموذج الغربي التنمية فإنهم سيتغلبون على حالة التخلف الراهنة التي تعانيها بلدانهم وبأنهم سيستطيعون نقل مجتمعاتهم التقليدية إلى مرحلة أكثر تطورًا وتقدمًا. ولربما تبادر إلى أذهانهم أنهم بذلك سيكونون قادرين على أن يصبحوا في فترة قياسية قصيرة جدًا في عداد الدول الصناعية المتقدمة، وأنهم بعد ذلك سيكونون قادرين على المنافسة في الأسواق العالمية بمنتجاتهم.
وفات أولئك القادة، الذين اندفعوا إلى تقليد النموذج الغربي التنمية أن يدركوا أن مرحلتهم مغايرة كلية من حيث طبيعتها وطريقة تكوينها عن تلك المرحلة التي تكون فيها النظام الرأسمالي الأوروبي. ذلك أن طبقة الصناع الأوروبية في مراحلها الأولى كانت تتنافس مع الإقطاع من جهة، والحرفية البدائية من جهة أخرى. وكان مسار الحركة التاريخية ينبئ بأفول نجم مرحلة الإقطاع. فالانتصارات العلمية التي حققها الإنسان، وفي مقدمتها اكتشاف الخلية الحية وتولد الطاقة وقانون الجاذبية ونظريات النشوء، وقيام حركة الإصلاح الديني البروتستانتية، وانتصار الثورتين الإنجليزية والفرنسية، واشتعال الثورات في جميع أنحاء أوروبا، كانت جميعها إيذانًا بأن فجرًا جديدًا للإنسانية قد بزغ، وأن مرحلة الإقطاع في أوروبا قد تهاوت مفسحة المجال لطبقة فتية أخرى لكي تأخذ مكانها في مسيرة التاريخ الإنساني، تلك هي طبقة أرباب الصناعة وأصحاب المال.
أما في العالم الثالث، فإن دعائم النظام الاجتماعي القديم لازالت قائمة، فالعلاقات الطبقية لازالت هي السائدة في عموم البلدان المتخلفة. والطبقة البرجوازية التي نشأت في أحضان الاحتلال الغربي لم تؤثر إيجابًا في تطوير العملية الإنتاجية، بل اقتصر فعلها على دور الوسيط بين أصحاب المصانع في أوروبا والمستهلكين في بلدان العالم الثالث
وفي وضع كهذا، فإنه إذا جرى التسليم بوجود نيات خالصة لدى أصحاب القرار في الدول النامية للعمل من أجل تحقيق التنمية والتطور في بلدانهم، فإن التنافس بين المنتجات الصناعية لهذه البلدان ومنتجات الدول الصناعية المتقدمة هو تنافس غير متكافئ من حيث الكم أو النوع، وبخاصة إذا علمنا أن دول العالم الثالث ستبقى لمراحل طويلة بحاجة إلى استيراد المعدات التكنولوجية من الدول الصناعية المتقدمة، مما يعني أن الدول الصناعية ستبقى مالكة لزمام المبادرة بما يضمن تبعية اقتصاد دول العالم الثالث لمصالحها وسياساتها.
إن وضع الدول المتخلفة الرامية إلى تقليد النموذج الغربي في هذه الحالة هو أشبه بوضع لاعب شطرنج مبتدئ ينازل لاعبًا محترفًا بتقليده لحركاته، ناسيا أن اللاعب المحترف يملك أولاً حق النقلة الأولى، وهو ثانيًا يملك الخبرة التي تمكنه من تحريك البيادق وتوجيه ساحة اللعب بالطريقة التي تضمن انتصاره، وهو ثالثًا البادئ بضربة "الكش" ولهذا فإن النتيجة المحتمة هي خسارة اللاعب المبتدئ.
الخيار الاشتراكي. كان ذلك هو حال الدول المتخلفة التي حاولت نقل النموذج الاقتصادي الغربي وتنفيذه في مجتمعاتها المتخلفة. أما دول العالم الثالث الأخرى، التي انتهجت الطريق الاشتراكي فهي بحكم انتماءات قادتها الاجتماعية والاقتصادية، لم تستطع بناء قوة اقتصادية وتنمية حقيقية، واقتصرت عملي في هذا الاتجاه على التأميم ونقل ملكية وسائل الإنتاج للدولة، بحيث تحول الاقتصاد من ملكية الأفراد إلى رأسمالية الدولة. وبقيت علاقات الإنتاج قائمة كما كانت من قبل، مع فارق أن الدولة هي التي تقوم في ظل هذا النموذج بدور السيد مالك المصنع.
ونتيجة طبيعية لعجز مؤسسات الدولة، وهيمنة كابوس البيروقراطية الثقيل على دوائرها، فقد انعكس هذا العجز على القدرة الإنتاجية والنوعية للقطاع العام، مما أدى إلى شل فاعليته وعجزه، ومن ثم إلى سيادة حالة من الركود والجمود في كل الفعاليات الاقتصادية التي تشرف الدولة على تسييرها.
وقد أدت تلك الحالة بكثير من قادة هذه الدول إلى القيام بمراجعة سياساتها ومناهجها الاقتصادية، والعودة إلى تشجيع القطاع الخاص، وفتح الباب على مصراعيه أمام الاستثمارات الأجنبية، لتقضي على البقية الباقية من نشاط القطاع الاقتصادي العام، الذي تم وضعه بعد الانفتاح في تنافس غير متكافئ مع قطاع خاص واستثمارات أجنبية أكثر خبرة وحيوية وأدق تنظيمًا. فكانت النتيجة سقوط هذه البلدان التدريجي في شرك التبعية للنظام الاقتصادي العالمي، والتراجع عن نهج التحرر والاستقلال.
إضافة إلى ذلك، فإن اختيار بعض الدول النامية الطريق الاشتراكي، قد وضعها في مواجهة مباشرة غير متكافئة مع النظام الرأسمالي العالمي. ذلك لأن هذه الدول بحكم ضعف مواردها الاقتصادية والبشرية فإنها تفتقد الأساس الاقتصادي والمادي لإدارة القطاع العام. ومن جهة أخرى، فإنها باختيارها للنظام الاشتراكي قد وضعت نفسها في صراع مع نظام اقتصادي عالمي يملك من الخبرة والثروة ما يجعله قادرًا باستمرار على تخريب هذه الأنظمة، إما عن طريق الغزو الخارجي، أو عن طريق تفتيت تلاحم النظام من الداخل.
نظريتا التبعية والتطور اللامتكافئ
دفع الواقع المأساوي بعديد من المفكرين الذين اهتموا بموضوع التنمية في بلدان العالم الثالث إلى دراسة وتحليل معوقات التنمية في هذه البلدان، والخروج ببعض الطروحات النظرية التي تعالج طبيعة علاقة البلدان المتخلفة بالنظام الاقتصادي العالمي، ومحاولة طرح بعض التصورات للخروج بهذه البلدان من مأزق التخلف الراهن.
تصور بوب سانكليف. ناقش الكاتب بوب سانكليف موضوع التنمية في دراسة كتبها تحت عنوان الإمبريالية والتصنيع في العالم الثالث مؤكدًا على أهمية استقلال عملية التصنيع في البلدان النامية، بحيث لا تصبح فرعًا لصناعة اقتصاد آخر، وإنما يجب أن تنطلق فكرة استقلال التصنيع من أصوله وقواه المحركة، وأن تنبع وتصان من قوى اجتماعية واقتصادية في داخل البلد المصنع. ويحدد سانكليف خصائص التصنيع المستقل فيقول: "وللتصنيع المستقل خصائص بارزة إضافة إلى الأسواق، منها ما يتعلق ببيئة الإنتاج الصناعي، فالصناعة لا يمكن اعتبارها مستقلة تمامًا ما لم يحتو البلد المعني داخل حدوده على مجموعة متنوعة من الصناعات، من بينها صناعات السلع الرأسمالية الاستراتيجية اقتصاديًا. وتتعلق السمة الأخرى للاستقلال بمصدر تمويل الصناعة المحلية، فرأس المال الأجنبي يتوقع منه عادة تقويض الاستقلال".
أما العنصر الآخر في مفهوم الاستقلال الاقتصادي فإنه يرتبط بالتكنولوجيا. فالتقدم التكنولوجي المستقل المتمثل في القدرة على نسخ وتطوير وتكييف التكنولوجيا المتلائمة مع موارد البلد هو أحد الشروط الرئيسية للتصنيع. أما الشرط الآخر فيتمثل في القدرة على تطوير التكنولوجيا بشكل تتمكن فيه الصناعة المحلية من تلبية طلب السوق الداخلية، وهذا بدوره يتطلب زيادة في رؤوس الأموال، ومقدرة على منافسة المنتجات الأجنبية.
ويقارن سانكليف بين الظروف التي حدثت فيها عملية التصنيع في الدول الغربية وبين تلك التي حدثت في العالم الثالث، فيشير إلى أن أوروبا قد استطاعت بناء وتعزيز صناعاتها من خلال نهبها للجزء المتخلف من العالم، بتحويل رأس المال الكامن مستخدمة إياه في تمويل الصناعة الأوروبية، وفي نفس الوقت قامت الإمبريالية الأوروبية بالاستيلاء على الأسواق. أما في البلدان المتخلفة فقد كان على رأس المال أن يتنافس على الأسواق ليس مع الإنتاج الحرفي التقليدي وغير الكفؤ فحسب، بل أيضًا مع إنتاج أكثر المشاريع الصناعية تطورًا في البلدان الرأسمالية المتقدمة، ولذلك، فإن الصناعة في البلدان المتخلفة تواجه صعوبة بالغة ليس في اقتحام الأسواق المحلية فحسب، حيث لا تتوفر وسائل حماية كافية، بل تواجه صعوبة أكثر من ذلك في اقتحام الأسواق الأجنبية، وبخاصة أسواق الدول الرأسمالية المتطورة التي من البديهي الافتراض أن يكون تركيب أنظمة التعرفة فيها مصممًا لصالح الرأسماليين أنفسهم. يضاف إلى ذلك أن من الضرورة إدراك أن جانبًا كبيرًا من تجارة البلدان المتخلفة ليس سوى تحويل للسلع بين فروع متكاملة عموديًا لمنشآت دولية، وبذلك فإنها، والحالة هذه، هو مجرد معاملة في داخل المنشأة، ولذلك فإن ضررها أكثر من نفعها، لكونها تؤدي إلى تقليص الفائض الإجمالي للبلد المتخلف، إذ إنها تتم بأسعار تحويلية لا يكون في الغالب بينها وبين أسعار السوق القائمة للمنتجات أية صلة.
تصور أندريه فرانك. عالجت أطروحات الكاتب أندريه جندر فرانك في نظريته عن التخلف علاقة المركز الذي هو النظام الغربي الرأسمالي بالتوابع التي هي دول العالم الثالث، فأشار إلى أن واقع التخلف الراهن لبلد ما، ما هو إلا النتيجة التاريخية للعلاقات الاقتصادية وغير الاقتصادية المستمرة بين هذا البلد وبين البلدان الصناعية المتقدمة حاليًا. كما أشار إلى أن هذه العلاقات تشكل جزءًا جوهريا من بنية وتطور النظام الرأسمالي على صعيد العالم كله، فالنمو السريع الذي تم في الدول الغربية حصل على حساب نهب ثروات شعوب البلدان المتخلفة.
وهكذا ربط فرانك موضوعيًا بين سيطرة الرأسمالية الاحتكارية والإمبريالية في البلدان المتقدمة، وبين التخلف الاجتماعي والاقتصادي في البلدان النامية، داحضًا الفكرة الخاطئة القائلة بأن تنمية البلدان والمناطق الأكثر تخلفًا لن تتم أو تحفز دون أن تتسرب إليها رؤوس الأموال والمؤسسات والقيم... من المتروبولات (مراكز) الرأسمالية الدولية والوطنية. موضحًا أن الآفاق التاريخية المستندة إلى تجارب البلدان المتخلفة توحي بعكس ذلك، إذ لا يمكن حدوث التنمية الاقتصادية للبلدان المتخلفة إلا بفك ارتباطاتها بالقوى الإمبريالية، والحيلولة دون تمكين رؤوس الأموال الأجنبية ومؤسساتها وقيمها من التسرب.
والحقيقة أن فرانك في تحليله هذا قد رفض النهجين الماركسي "الأرثوذكسي" والرأسمالي "الروستوي في مفهوم التنمية في البلدان المتخلفة، حين اعتبر العلاقة مع النظام الرأسمالي العالمي عاملاً رئيسيًا من معوقاتها.

 
  Aujourd'hui sont déjà 61 visiteurs (86 hits) Ici!  
 
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement